الرؤيا ومنابعها:
قدمنا في المقالة السابقة الأسطورة والشعر، حيث تطرقنا لمفهوم الحداثة الشعرية وتوظيف الأسطورة، ومن ثم ولادة الأسطورة في شعر الحداثة وكيف نظر إليها شعراء الحداثة. اليوم، في هذا المقال سنستعرض منابع الرؤية في شعر الحداثة من خلال بعض القراءات.
رأى بعض شعراء الحداثة أن الرؤيا هي تجسيد للحداثة بحد ذاتها، فالحداثة نفسها رؤيا قبل أن تكون شكلاً فنياً، ومن خلال هذه الرؤيا تجسد قصيدة الحداثة رحلتها من (الذاكرة) إلى، الماضي المستقبل، بل أضحت الرؤيا عنصر مكون من عناصر تلك القصيدة الحداثوية. يقول أدونيس ـ والذي يعد منظر للحداثوية وناقداً متعمقا في مفهومها ـ (لعل خير ما نعرف به الشعر الجديد هو الرؤيا)، وهو ما ذهب إليه رامبو فمهمة الشعر عنده رؤية م لا يرى وسماع ما لايسمع، وبعبارة أخرى الوصول إلى المجهول. لذلك فإن الرؤية تقوم على التجربة الباطنية، حيث لاتخلو هذه التجربة من شطحات واسترسالات فكرية تأملية تُرى ما يرى وتسمع ما لايسمع، ومن المتوقع أن يكون المعطى الشعري لهذه الشطحات والاسترسالات مبهماً، وكما رآها خليل حاوي نوع معرفي يتخطى نطاق العلم المحدود بالظاهر المحسوس، وهي منافسة للفلسفة بل متغلبة عليها في مجال الكشف والخلق والبناء وصهر الفكر.
في المقطع التالي لعبد الوهاب البياتي والتي يتحدث فيه عن مصرع أحد المناضلين الجزائريين في سجنه على يد الفرنسيين، يتضح تكثيف الصور والرموز الخاصة على شبكة رؤيوية امتاز بها الشاعر حيث يعترف البياتي نفسه "أن الشعر في رؤيتي يتخطى الآماد والأزمان":
قمر أسود في نافذة السجن وليل
وحمامات وقرآن وطفلُ
أخضر العينين يتلو
سورة النصر، وفلُّ
من حقول النور، من أفق جديد
قطفته يد قديس شهيد
يد قديس وثائر
ولدته في ليالي بعثها شمس الجزائر
ولايخفى على قارئ هذه المقطوعة إن عدم التجانس في تراكيبها وعناصرها، هو ما يحيلها حواراتها الضوئية الخاطفة التي يتوسلها الشاعر، ربما لما في رؤية البياتي من تحرر وتخط للزمن، آمن بها شاعر الحداثة العربية وكلف بها.
أما يوسف الخال فيقول:
كفّن اليقظة بالرؤيا وتاه
شاعر كل المنى بعض مناه
لم يعد لليقظة هنا وجود، لقد استبدل الخال تلك اليقظة بالرؤيا، لكن توهته هذه الرؤيا ولم تعد كل المنى ترضي نزعته نحو المعرفة.
فالرؤيا بالنسبة لشاعر الحداثة هي هاجس، وهي آلية إبداعية تجري في دمه بما لها من رعشة وفطرة وحدس، وعندما تأتي يقول الشاعر ما يقول.
لكن رؤيا السياب حوت من شدة العطش وحرارته ما عجز واقعه المرير أن يطفئ جذوتها وإشباع نهمها وتطلعا إلى واقع أفضل حيث الخير والنماء، في قصيدته (رؤيا في عام 1956):
حطت الرؤيا على عينيّ صقراً من لهيب
....
ليس تطفي غلة الرؤيا: صحارى من نحيب
من حجور تلفظ الأشلاء هل جاء المعاد؟
أهو بعث، أهو موت، أهي نار أم رماد
يلاحظ أن السياب اعتمد في مقطوعته هذه على الرمز الأسطوري لنقل رؤياه حول معاناته وواقعه ومستقبله، ومع أن هذه الرموز لم توضح الرؤيا بقدر ما عقدتها إلا أنها صورت حجم الهم الذي يحمله الشاعر. فالرؤيا لشاعر الحداثة العربية أفق رحب واسع، صحراء رحبة الصدر يستضيف في مدارها مايشاء، يقول أدونيس:
نهضت صحرائي من سريرها
وذهبت لزيارة أصدقائها
في عربة تجرها الأيائل
ولم يكن ذلك حلماً
ما أكرمها ما أوسع صدرها
تتيح لي دائماً
أن استضيف ما شئت من النجوم.
........
صنعت رؤية الشاعر (الصحراء) لنفسها هنا سريراً وذهبت في عربة تجرها الوعول، صورة غريبة لاتحدث إلا في الأحلام، ولكن أدونيس ينفي ذلك أن يكون حلماً، لذلك لم يبق إلا أن يكون "رؤيا".
لقد دخلت الرؤيا عنصراً في مفهوم شعر الحداثة العربية ووظيفته وتعريفه، إلى جانب تعريفات أخرى من نحو "الكشف عن المجهول" و "تأسيس للعالم" وحسب رؤية الأستاذ الدكتور عبد الرحمن القعود، فإن هذه المقولات تحمل مفهومات طموحة جداً، وربما تكون فوق طاقة الشعراء أنفسهم، ولعل هذا مادفع الشعراء إلى تأسيس أنساق وأشكال وتقنيات تعبيرية لم يعهدها الشعر ولا الشاعر فتشوشت الرؤية عندهم وانعكس هذا التشويش على شعرهم إبهاماً وتعقيداً وصعوبة.
* المرجع: الإبهام في شعر الحداثة ـ د. عبد الرحمن محمد القعود