لوركا والسياب
عكست قصيدة السياب "غارسيا لوركا" التي نشرها في ديوانه"أنشودة المطر" أجواء عالمه المليء بالرمز، ففاض مطر الشاعر، وأشرع زوارقه وترعرعت جداوله وفاضت، فينسجم السياب مع عالم الطبيعة ومع ظواهرها القاسية ويتحد معها، راغباً أن تشاركه ذاك العالم الشعري "السيابي" المفعم بالرموز.
في قصيدته هذه، لم يشر السياب لاسم "لوركا"، كما أنه لم يذكر غرناطة ولا مدريد ولا إسبانيا، بل ذكر اسم كولومبس، ذلك البحار المكتشف، فقط في معرض مقارنة شراع سفينته مع شراع زورق طفل في نهر، ويترك السياب للقارئ صعوبة تفكيك رموز القصيدة والإبحار في عالمها، وأي قارئ ذاك الذي يريده السياب!
لقد استخدم السياب في هذه القصيدة مفردات كثيرة تدل على العنف والقسوة واللظى والجحيم، والدم وفوران التنور والحمم، وتارة يراه مسيحاً يطعم الجياع جسده خبزاً، لكن السياب جمع الضدين في لوركا :النار والماء،فالنار تطعم جياع البشر خبزاً من خلال توظيفه لرمز التنور، والطوفان يطهر نفوسهم من الشرور. حتى هنا يبدو انسياب قصيدة السياب واضحاً تماماً، لايشوبه لبس أو غموض، بعد ذلك يسرح الشاعر مع خواطر شتى فيرى لوركا وقد نسج شراعه من لظى ويجمعه من أثداء الأمهات المرضعات ومن مشارط القابلات التي يقطعن بهن الحبل السري، ومن سكاكين الغزاة التي تمضغ الشعاع!!1؟
ويصحو السياب بعد ذلك على عيون لوركا وهي تنسج أشرعتها، بعد جولة من التطواف لينتقل إلى عالم الطفولة واللهو وزوارق الورق التي تجتاز ماء النهر لتصل عباب البحر ومخاطر الخوض في ذاك العالم.
لاندري إن كان لوركا يحمل متناقضات قصيدة السياب، فهو، أي لوركا، كان يحب المسرح ويحب الغجر، وكان ثورياً لكنه لم يحمل سلاحاً ضد فرانكو، فهل نار وطوفان السياب وشرره وسكاكين الغزاة ومشارط القابلات وزوارق الطفولة .... هي تعبير عن ثورة لوركا الهادئة، أم أنها قراءة لعالم الذي يزاوج بين القبح والجمال ، بين العنف والهدوء، بين ظاهر لوركا وباطنه.
ربما أراد السياب أن يسقط شخصية لوركا على نفسه، وكلا الشاعرين عاشقان للحرية، كانا على تحد مع القدر لاكتشاف المجهول.
لنقرأ مع السياب:
في قلبه تنورْ
النارُ فيه تُطعمُ الجياعْ
والماءُ من جحيمهِ يفورْ
طوفانهُ يُطهّرُ الأرضَ من الشرورْ
ومقلتاهُ تنسجانِ من لظىً شراعْ
تجمعان من مغازل المطرْ
خيوطه، ومن عيونٍ تقدحُ الشررْ
ومن ثُديِّ الأمهاتِ ساعةَ الرضاعْ
ومن مُدىً تسيلُ منها لذّةُ الثمرْ
ومن مُدىً للقابلاتِ تقطعُ السُرَرْ
ومن مُدى الغُزاةِ وهي تمضغُ الشعاعْ
شراعهَ النديَّ كالقمرْ
شراعهَ القويَّ كالحجرْ
شراعهَ السريعَ مثلَ لمحةِ البصرْ
شراعهَ الأخضرَ كالربيعْ
الأحمرَ الخضيبَ من نجيعْ
كأنه زورقُ طفلٍ مزّقَ الكتابْ
يملأُ مما فيهِ بالزوارق النهَرْ
كأنه شراعُ كولمبسَ في العُبابْ
كأنه القدرْ
................................................مع تحيات noon
**************************
المصدر: نصوص عراقية - العدد الثامن - مايو 2004
ديوان بدر شاكر السياب/ دار العودة، بيروت 1971