انا الملك المتكامل حمورابي، وهبني الاله إنليل للبشرية ولم اعتكف واضعا يدي في مخبأي. لقد اسست مدائن العطاء وكسرت قيود الاضطهاد ووهبت للشعب الضوء والحياة. بالسلاح الذي وهبني الاله زبابا والالهة عشتار واله الهمة أيا وكذلك مردوخ قضيت على كل انواع المقاومة والاعداء شمالا وجنوبا، كل هذا فعلته حبا بالوطن. لقد اسكنت رعيتي في بيوت ومدن امنة وكل من حاول التصدي لهم وقفت انا في وجهه. انا موكل من قبل الالهة هكذا انا, الراعي الذي رعى بحرص وكانت عصاه دوما مستقيمة, وظلي ممدد في كل ارجاء مدينتي. احتضنت شعب سومر واكد وبمساعدة الهة الحماية كنت معيلا لهم في السلام وقد خباتهم في داخل نفسي. لا ياخذ القوي حق الضعيف ولا حق الارامل والايتام واني قد وضعت القانون في المدينة بابل وعلى راسها الالهة إنليل وانو اللذان رفعاها إلى الاعالي وقاعدتها خالدة في الارض وفي السماء لتقدم الحق للمحق وتعطي القرار لصاحبه وتنصف المظلوم. كتبت وثبت كلماتي على مسلتي وامامي انا ملك العدالة. الملك المميز من بين كل الملوك هو انا."
في اواخر سنة 1901 واوائل 1902 اكتشف باحثو الاثار الفرنسيون وبادارة السيد مورغان في مدينة سوسة في عيلام ثلاث قطع ضخمة من حجر الديوريت الاسود. ربما سرقها الملك العيلامي شوتروك ناخونته في سنة 1150 قبل الميلاد في احدى حملاته على بابل. عندما قام خبراء الاثار بتثبيت قطعة فوق الاخرى ادركوا انهم اكتشفوا شيئا مذهلا: مسلة كبيرة طولها 2,25 مترا. انها مسلة حمورابي. في الجزء الاعلى من المسلة رجل يرتدي رداء طويلا وعمامة مدورة رافعا ذراعه اليمنى بخشوع. يشخص امامه الاله شمش, اله الشمس، ولان الشمس تضيء كل شي فلا يعود شئ فيه ظلام لذا فشمش هو اله الحق والعدالة. ذراعه اليمنى ممتدة للامام ليناول حمورابي شيئين: خاتما وعصا كدليلين على السلطة والسيادة.
اما بقية المسلة فتتجزأ إلى ثلاثة اجزاء: الاول وهو المقدمة والثاني المواد القانونية والثالث هو الوصايا. الكتابة تشكل اسطرا عمودية مفصولة بخط عامودي وتمتد من اليمين إلى اليسار. لقد كانت هذه عادة الكتابة على التماثيل والحيطان في ذلك الزمان بينما كان البابليون يكتبون من اليسار إلى اليمين في حياتهم اليومية.
عندما اقدم عالم اللغات السيد شايل في ترجمة المسلة قرر ان يترجم الجزء الثاني من المسلة إلى مواد دستورية لان جلها تبدا بالكلمة "إذا" حيث تقرا الحالة وبعدها تنتهي بكلمة "سوف" حيث القرار القانوني. وعند تعداد المواد اكتشف السيد شايل ان المسلة تحتوي على 282 مادة. متى كتبت هذه المسلة بالتحديد لا يعلم احد لكن العلماء اجمعوا بان من خلال قرائتهم لما تحتويه المسلة في الجزء الاول والاخير من انجازات ملك بابل بان المسلة كتبت في نهاية فترة حكمه.
إذا من كان هذا الملك حمورابي؟ وكيف حكم بلاد ما بين النهرين ؟ وكيف كان المجتمع البابلي يتماشى مع قوانينه الصارمة؟ وبم اوصانا هذا الملك المتميز؟ هل وصيته هي لعنة ام حكمة لكل من سيأتى بعده من حكام بلاد ما بين النهرين؟
في هذا البحث اسلط الضوء على أسلاف الملك البابلي وثم الدولة البابلية ونظامها المركزي. سوف اتعمق في قانون الاحوال المدنية وحقوق المواطن البابلي مستهلة بذلك اوجها عدة من الحياة الاجتماعية والاقتصادية البابلية وعادات الشعب البابلي الذي تمارس بعض طقوسه حتى اليوم. تركز نهاية البحث على وصية حمورابي التي جاءت في الجزء الاخير من مسلته.
الجزء الاول: سلالة الملوك البابلية ودولة بابل الكبرى
عندما هاجرت اعداد كبيرة جدا من العموريين، الذين يسمون ايضا بالكنعانيين او الساميين الغربيين... هاجرت من الشمال الغربي لشبه الجزيرة (العربية اليوم) إلى بلاد ما بين النهرين استقرت في المنخفضات المتوسطة والجنوبية لتعمل في الزراعة كطبقة مزارعة تحت رعاية اسيادها. وقد نجحت هذه الطبقة المزارعة بالاطاحة بسلالة دولة اور الثالثة التي حكمت البلاد بين 2011 - 2003 ق.م. كان مواطنو دولة اور الثالثة يتحدثون اللغة السومرية حيث هناك العديد من الشهادات ولوائح الطين التي تم العثور عليها مكتوبة باللغة السومرية تعود إلى ذلك العصر، بينما يتداول العموريون اللغة الاكدية التي طغت على اللغة السومرية وأعتمدت كلغة دارجة وهي خليط بابلي اشوري ومجتمع هذه الدولة يسمى المجتمع البابلي القديم. فعندما نتحدث عن الدولة البابلية القديمة نعني هنا تلك الدولة المتحدثة باللغة الاكدية (البابلية-الاشورية) التي حكمت بلاد ما بين النهرين من القرن التاسع عشر حتى القرن السادس عشر قبل الميلاد.
كانت دولة اور الثالثة دولة قوية متحدة ذات سيادة ونفوذ وعند سقوطها تجزأت إلى عدة إمارات وممالك متنافسة ومتحاربة تارة من اجل إستعادة الدولة الموحدة مثل اور الثالثة وتارة اخرى من اجل التمسك بالسيادة والاستقلال.
لم تعد بابل في الالفية الثانية قبل الميلاد محورا سياسيا او اقتصاديا او ثقافيا مهما بل كانت منطقة نائية تسكنها قبائل عمورية يحكمها رجل متنفذ. اطلق العموريون تسمية لهذه المنطقة "باب إيليم" اي "بوابة الرب" وترجمها اليونانيون فيما بعد إلى "بابيلون" اي بابل. كانت السلالة الحاكمة الاولى في بابل للمك الاول "سموابوم" (1894-1881) وقد حكم بابل قرابة الاربعة عشر عاما وكان نفوذه يمتد حتى ضواحي بابل. لقد دمر مدينة كازالو وكانت لفترة قصيرة تحت سيطرته حتى استولى عليها خلفه وهو الملك "سومولا إيل" (1880-1845) الذي حارب دولة كيش. كان الملك "سابيوم" (1844-1831) وليا للعهد في مملكة سيبار وقد اكتشف علماء الاثار انه يبدو قد انتصر على لارسا إعتمادا على لائحة كتب عليها:" لقد انتصر على جيش لارسا بقوة السلاح ".
الملك "آبيل سن" (1830-1813) حكم شمال بابل وكيش ودلبات وبورسيبا وسيبار و قد شيد العديد من الاسوار لهذه المدن. اما الملك "سن موبالليط" (1812-1793) فانه سلف الملك حمورابي ووالده وقد خاض العديد من الحروب ضد اور و ايسين وُهزم امام جيوش لارسا التي سيطرت بعد ذلك على ايسين واستولت عليها. كانت لارسا الدويلة القوية تسيطر على الجزء الجنوبي من بلاد الرافدين وكانت شوكة في عين حمورابي الذي ومنذ توليه عرش الحكم في بابل إذ بعد نصف قرن من حكم ابيه كان طامحا للاستيلاء على هذه الدويلة لضمها إلى دولة بابل الكبرى. لقد كانت لارسا تحت حكم قبيلة جاموتبال/يموتبال التي سكنت المناطق الشرقية من نهر دجلة و ملكها "رم سن" ، أما والده "خضر مابوك" فكان شيخ هذه القبيلة الكبيرة. حكم الملك رم سن لارسا ستين سنة وكانت اشهر انتصاراته على دولة ايسين في السنة الثلاثين من فترة حكمه. وقد خاض عدة حروب ضد اور والوركاء وكسورا ودير. كان الملك العموري "شمشي أداد" (1812-1780/76) يحكم في الشمال من بلاد الرافدين دويلة اشور التي كانت تعد في الالفية الثانية قبل الميلاد من المعاقل التجارية الرائدة. كان شمشي أداد مسيطرا على الجزء الشمالي من بلاد ما بين النهرين باكمله والذي يسمى بالهلال الخصيب. وكان هذا الملك يقطن في اكثر الاحيان في مدينة شوبات انليل المسماة اليوم (تل ليلان). كان هناك بجانب هؤلاء الملوك وهذه الدويلات ملوك اخرون يحكمون في دويلات عديدة مثل ماري الواقعة على الجزء المتوسط من نهر الفرات وكانت ايضا مركزا تجاريا مهما تحت سيطرة الملك شمشي أداد ودويلة اشنونة شمال شرقي بابل التي كانت مستقلة سياسيا عن دولة اور الثالثة تحت حكم الملك "إبّي سن".
كل هذه الدويلات الواقعة إلى الشمال والجنوب من بابل بقوتها السياسية والاقتصادية ونفوذها ومصالحها مع جيرانها... كانت تعتبر للملك حمورابي الذي تسلم مقاليد الحكم في 1792 ق.م. تحديا كبيرا جدا لتكوين دولة متحدة ذات سيادة مركزية وعاصمتها بابل. إذ كان ملك اشور شمشي أداد وملك لارسا رم سن من اكبر منافسيه وخصومه. لكن حنكة حمورابي السياسية وذكاءه وتيقنه في اتخاذ القرار السياسي مكنته من الانتصار على اشور ولارسا وانشاء الدولة البابلية الكبرى بفضل اتفاقيات عسكرية ذكية تمنع الجزء الشمالي من الاستيلاء او السيطرة على اي قاطع من القطاعات الجنوبية او التدخل في سياسة حمورابي فيما يخص لارسا او اشنونة . وبعكس ذلك تم الاتفاق مع ملك لارسا على احترام سيادة بابل وعدم التدخل في سياستها الداخلية والخارجية. كان حمورابي يتمتع بحماية الملك شمشي اداد الاشوري الذي ساعده في خوض الحروب ضد اشنونة (تل اسمر) ولارسا في السنة الثامنة من حكمه.
بعد وفاة الملك شمشي أداد لم يكن هناك اي سند شمالي لحمورابي إذ تمكن الملك "زمري ليم" من إنتزاع السلطة من أبن الملك شمشي أداد "جشماخ أداد" الذي كان حاكما لدويلة ماري وإبرام اتفاقيات مع حمورابي تتضمن تبادل المعلومات الاستخباراتية والعسكرية من قبل رجال مخابرات في بلاطي بابل وماري. تستهدف هذه الاتفاقيات تقوية حفظ السلام وتوطيد العلاقات التجارية ما بين الدولتين.
عندما ايقن الملك حمورابي بان اشنونة قد تحالفت مع دولة عيلام سارع لحشد جيوشه بالتعاون العسكري مع جيوش ماري وشن حربا ضد اشنونة وسحق جيش عيلام وانتصرعلى هاتين الدولتين وكذلك على سابارتو في اشور وعلى غوتيوم وشعبها الجبلي وايضا على مالغوم الواقعة على دجلة في السنة الثلاثين من حكمه. اصبح ملك لارسا رم سن في تلك الحقبة عجوزا لذا لم يعد الشاب حمورابي ملزما بطاعة حكم رم سن وأخذها بالحسبان، بل كان يستعد للاستيلاء على دويلته وضمها لدولة بابل الكبرى. فتم الاتفاق مع ماري بتوجيه تهمة لدولة لارسا مفادها بان ملك لارسا رم سن يستولي على قرى بابلية وياخذ اهلها سبايا للارسا. بهذه التهمة اعد حمورابي لرم سن الضربة القاضية واعتبرها:"عملية دفاعية ومتمناة من الالهة شمش ومردوخ". حيث تم ضم لارسا للدولة البابلية التي لم يمسها اي ضرر حربي بل تم بناؤها وترميمها.
لم يكن حمورابي قد اكتفى بهذه الانجازات والحروب لتحقيق اهدافه الاستراتيجية والجغرافية بل التفت إلى دويلة ماري في السنة الثلاثين من حكمه التي كانت محورا تجاريا مهما يربط تدمر بحلب. فقد مزق كل الاتفاقيات مع الملك زمري ليم وسحب رجاله من بلاطه وقام بتحشيد جيوشه للقضاء على ملك ماري. كرد فعل على تحركات حمورابي تحالفت دويلة ماري مع دويلة مالغوم وشنتا حربا عنيفة ضد بابل. في السنة الرابعة والثلاثين استطاعت جيوش حمورابي من تحطيم اسوار مالغوم وماري وضم الدولتين إلى بابل. بعد ثلاثة واربعين عاما من حروب وتحالفات ومؤامرات تحقق حلم الملك المتميز حمورابي في توحيد كل الدويلات في بلاد الرافدين وضمها إلى بابل الكبرى لكي يصبح حمورابي ملك بلاد الرافدين، الحاكم الوحيد العادل والقوي على دولة واحدة موحدة وقوية.......